فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج هذا ابن أبي حاتم عن مقاتل وزعم بعضهم أنه أظهر.
وتعقب بأن المراد بالتشبيه بيان كيفية استئذان هؤلاء وزيادة إيضاحه ولا يتسنى ذلك إلا بتشبيهه باستئذان المعهودين عند السامع، ولا ريب في أن بلوغهم قبل بلوغ هؤلاء مما لا يخطر ببال أحد وإن كان الأمر كذلك في الواقع وإنما المعهود المعروف ذكرهم قبل ذكرهم، فالمعنى فليستأذنوا استئذانًا كائنًا مثل استئذان المذكورين قبلهم بأن يستأذنوا في جميع الأوقات ويرجعوا إن قيل لهم ارجعوا حسبما فصل فيما سلف، وكون المراد بالأطفال الأطفال الأحرار الأجانب قد ذهب إليه غير واحد، وقال بعض الأجلة: المراد بهم ما يعم الأحرار والمماليك فيجب الاستئذان على من بلغ من الفريقين وأوجب هذا استئذان العبد البالغ على سيدته لهذه الآية، وقال في البحر {مّنكُمْ} أي من أولادكم وأقربائكم.
وأخرج ابن أبي حاتم نحو هذا التفسير عن سعيد بن جبير.
وأخرج عن سعيد بن المسيب أنه قال: يستأذن الرجل على أمه فإنما نزلت: {وَإِذَا بَلَغَ الاطفال مِنكُمُ الحلم} في ذلك.
وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أأستأذن على أختي؟ قال: نعم قلت: إنها في حجري وأنا أنفق عليها وإنها معي في البيت أأستأذن عليها؟ قال: نعم إن الله تعالى يقول: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم} [النور: 58] الآية فلم يأمر هؤلاء بالاستئذان إلا في العورات الثلاث وقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الاطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} فالإذن واجب على خلق الله تعالى أجمعين، وروي عنه رضي الله تعالى عنه أنهق ال: آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جارتي يعني زوجته أن تستأذن علي، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم، ونقل عن بعضهم أن وجوب الاستئذان المستفاد من الأمر الدال عليه في الآية منسوخ وأنكر ذلك سعيد بن جبير روى عنه يقولون: هي منسوخة لا والله ما هي منسوخة ولكن الناس تهاونوا بها، وعن الشعبي ليست منسوخة فقيل له: إن الناس لا يعملون بها فقال: الله تعالى المستعان، وقيل: ذلك مخصوص بعدم الرضا وعدم باب يغلق كما كان في العصر الأول {كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الكلام فيه كالذي سبق، والتكرير للتأكيد والمبالغة في طلب الاستئذان، وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لتشريفها وهو مما يوقي أمر التأكيد والمبالغة.
{والقواعد مِنَ النساء} أي العجائز وهو جمع قاعد كحائض وطامث فلا يؤنث لاختصاصه ولذا جمع على فواعل لأن التاء فيه كالمذكورة أو هو شاذ، قال ابن السكيت: امرأة قاعد قعدت عن الحيض، وقال ابن قتيبة: سميت العجائز قواعد لأنهن يكثرن القعود لكبر سنهن، وقال ابن ربيعة: لقعودهن عن الاستمتاع حيث أيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج فقوله تعالى: {اللاتى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي لا يطمعن فيه لكبرهن صفة كاشفة {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها لكشف العورة كالجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار.
وأخرج ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنه قال: في مصحف أبي بن كعب ومصحف ابن مسعود {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ جلابيبهن} وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يقرآن كذلك، ولعله لذلك اقتصر بعض في تفسير الثياب على الجلباب، والجملة خبر {القواعد} والفاء إما لأن اللام في القواعد موصولة بمعنى اللاتي وإما لأنها موصوفة بالموصول.
وقوله تعالى: {غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} حال، وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم: سفينة بارج لا غطاء عليها، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطًا بسوادها كله لا يغيب منه شيء، وقيل: أصله الظهور من البرج أي القصر ثم خص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها، وليست الزينة مأخوذة في مفهومه حتى يقال: إن ذكر الزينة من باب التجريد، والظاهر أن الباء للتعدية، وقيل: زائدة في المفعول لأنهم يفسرون التبرج بمتعد، ففي القاموس تبرجت أظهرتا زينتها للرجال وفيه نظر، والمراد بالزينة الزينة الخفية لسبق العلم باختصاص الحكم بها ولما في لفظ التبرج من الإشعار، والتنكير لإفادة الشياع وأن زينة ما وإن دقت داخلة في الحكم أي غير مظهرات زينة مما أمر بإخفائه في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} بترك الوضع والتستر كالشواب {خَيْرٌ لَّهُنَّ} من الوضع لبعده من التهمة فلكل ساقطة لاقطة، وذكر ابن المنير للآية معنى استحسنه الطيبي فقال: يظهر لي والله تعالى أعلم أن قوله تعالى: {غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} من باب:
على لاحب لا يهتدي بمناره

أي لا منار فيه فيهتدي به وكذلك المراد والقواعد من النساء لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هن بهذه المثابة، وكأنه الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الشواب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانًا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة هذا في القواعد فكيف بالكواعب {والله سَمِيعٌ} مبالغ في سمع جميع ما يسمع فيسمع بما يجري بنهن وبين الرجال من المقاولة {عَلِيمٌ} فيعلم سبحانه مقاصدهن.
وفيه من الترهيب ما لا يخفى. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ} أي: الذين رخص لهم في ترك الاستئذان في غير الأوقات المذكورة: {مِنْكُمُ} أي: من الأحرار، دون المماليك، فإنهم باقون على الرخصة: {الْحُلُمَ} أي: حدّ البلوغ بالاحتلام، وبالسنّ الذي هو مظنة الاحتلام: {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} أي: في سائر الأوقات أيضًا: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: الذين بلغوا الحلم من قبلهم، وهم الرجال أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} (27).
والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن، إلا في العورات الثلاثة. فإذا اعتاد الأطفال ذلك، ثم خرجوا عن حدّ الطفولة، بأن يحتلموا أو يبلغوا السنّ التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات، كما يستأذن الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.
وهذا مما الناس منه في غفلة. وهو عندهم كالشريعة المنسوخة. وعن ابن عباس: آيةٌ لا يؤمن بها أكثر الناس: آية الإذن. وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليّ.
وسأله عطاء: أستأذنُ على أختي؟ قال: نعم، وإن كانت في حجرك تمونها. وتلا هذه الآية.
وعنه: ثلاث آيات جحدهن الناس: الإذن كله. وقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فقال ناس: أعظمكم بيتًا. وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8]. كذا في الكشاف.
تنبيه:
قال في الإكليل: في الآية أن التكليف إنما يكون بالبلوغ. وأن البلوغ يكون بالاحتلام. وأن الأولاد البالغين لا يدخلون على والديهم إلا بالاستئذان، كالأجانب. انتهى.
وقال التقي السبكي في إبراز الحكم في شرح حديث رفع القلم: أجمع العلماء على أن الاحتلام يحصل به البلوغ في حق الرجل. ويدل لذلك قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «وعن الصبيّ حتى يحتلم». وهي رواية ابن أبي السرح عن ابن عباس. قال: والآية أصرح. فإنها ناطقة بالأمر بعد الحلم. وورد أيضًا عن علي رضي الله عنه، رفعه: «لا يُتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل» رواه أبو داود. والمراد بالاحتلام خروج المني. سواء كان في اليقظة أم في المنام، بحلم أو غير حلم. ولما كان في الغالب لا يحصل إلا في النوم بحلم، أطلق عليه الحلم والاحتلام، ولو وجد الاحتلام من غير خروج مني، فلا حلم له.
ثم قال: وقوله في الحديث: «حتى يحتلم» دليل البلوغ بذلك. وهو إجماع. وهو حقيقة في خروج المني بالاحتلام، ومجاز في خروجه بغير احتلام يقظة أو منامًا. أو منقول فيما هو أعم من ذلك، ويخرج منه الاحتلام بغير خروج مني، إن أطلقناه عليه منقولًا عنه. ولكونه فردًا من أفراد الاحتلام. انتهى.
وفي القاموس: الْحلُم بالضم والاحتلام: الجماع في النوم. والاسم الحلم كعنق. انتهى.
وقال الراغب: سمي البلوغ حلمًا، لكون صاحبه جديرًا بالحِلم: أي: الأناة والعقل.
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} أي: اللاتي قعدن عن الحيض والولد، لكبرهن: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي: لا يطمعن فيه، لرغبة الأنفس عنهن: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي: الظاهرة مما لا يكشف العورة، لدى الأجانب. أي: يتركن التحفظ في التستر بِهَا. فلا يلقين عليهن جلابيبهن ولا يحتجبن: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي: مظهرات لزينة خفية. يعني الحليّ في مواضعه المذكورة في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (31) أو المعنى غير قاصدات بالوضع، التبرج. ولكن التخفف إذا احتجبن إليه: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} أي: من وضع تلك الثياب: {خَيْرٌ لَهُنَّ} لأنه أبلغ في الحياء وأبعد من التهمة والمظنة. ولذا يلزمهن، عند المظنة، ألا يضعن ذلك. كما يلزم مثله في الشابة: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: فيسمع مقالهن مع الأجانب، ويعلم مقاصدهن من الاختلاط ووضع الثياب. وفيه من الترهيب ما لا يخفى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ووقع قوله: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} في موقع التصريح بمفهوم الصفة في قوله: {والذين لم يبلغوا الحلم} ليعلم أن الأطفال إذا بلغوا الحلم تغير حكمهم في الاستئذان إلى حكم استئذان الرجال الذي في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم} [النور: 27] الآيات، فالمراد بقوله: {الذين من قبلهم} فيما ذكر من الآية السابقة أو الذين كانوا يستأذنون من قبلهم وهم كانوا رجالًا قبل أن يبلغ أولئك الأطفال مبلغ الرجال.
وقوله: {كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم} القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفًا، وهو تأكيد له بالتكرير لمزيد الاهتمام والامتنان.
وإنما أضيفت الآيات هنا لضمير الجلالة تفننًا ولتقوية تأكيد معنى كمال التبيين الحاصل من قوله: {كذلك}.
وتأكيد معنى الوصفين العليم الحكيم.
أي هي آيات من لدن مَن هذه صفاته ومَن تلك صفات بيانه.
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا}.
هذه الآية مخصّصة لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن} إلى قوله: {على عورات النساء} [النور: 31].
ومناسبة هذا التخصيص هنا أنه وقع بعد فرض الاستيذان في الأوقات التي يضع الرجال والنساء فيها ثيابهم عن أجسادهم، فعطف الكلام إلى نوع من وضع الثياب عن لابسها وهو وضع النساء القواعد بعض ثيابهن عنهن فاستثني من عموم النساء النساءُ المتقدمات في السن بحيث بلغن إبان الإياس من المحيض فرخص لهن أن لا يضربن بخمرهن على جيوبهن، وأن لا يدنين عليهن من جلابيبهن.
فعن ابن مسعود وابن عباس: الثياب الجلباب، أي الرداء والمقنعة التي فوق الخمار.
وقال السدي: يجوز لهن وضع الخمار أيضًا.
والقواعد: جمع قاعد بدون هاء تأنيث مثل: حامل وحائض لأنه وصف نُقل لمعنى خاص بالنساء وهو القعود عن الولادة وعن المحيض.
استعير القعود لعدم القدرة لأن القعود يمنع الوصول إلى المرغوب وإنما رغبة المرأة في الولد والحيضُ من سبب الولادة فلما استعير لذلك وغلب في الاستعمال صار وصف قاعد بهذا المعنى خاصًّا بالمؤنث فلم تلحقه هاء التأنيث لانتفاء الداعي إلى الهاء من التفرقة بين المذكر والمؤنث وقد بينه قوله: {اللاتي لا يرجون نكاحًا} وذلك من الكبر.
وقوله: {اللاتي لا يرجون نكاحًا} وصف كاشف ل {القواعد} وليس قيدًا.
واقترن الخبر بالفاء في قوله: {فليس عليهن جناح} لأن الكلام بمعنى التسبب والشرطية، لأن هذا المبتدأ يشعر بترقب ما يرد بعده فشابه الشرط كما تقدم في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38].
ولا حاجة إلى ادعاء أن ال فيه موصولة إذ لا يظهر معنى الموصول لحرف التعريف وإن كثر ذلك في كلام النحويين.